ينتمي إلى زمرة الطيبين الذين أثروا في تكويني المعرفي والأخلاقي والديني والجمالي والإبداعي، ثم توقّفت مليّاً بتأنٍ وروية في محطاتهم، وأوّلهم ذلك الذي عناه الأستاذ صلاح بن البادية في مدحته الأثيرة الى النفس والفؤاد والوجدان... طيب وطيب... والبحبو كلو طيب... نبي الله... محمد صلوات الله وسلامه عليه... سيد الأولين والآخرين ومنقذ البشرية من (ضيق) الضلال والغواية إلى (رحاب) السماحة والهداية، ثم قلمنا الروائي العالمي العذب... الطيب صالح مروراً بصاحب اللغة العدنانية والقراءات التأملية الفاحصة في الأدب والقرآن الكريم والتّراث العربي والثقافات السودانية، كل ذلك في برنامجه الموسوم (كلمة وحكاية) الذي كان يبث على أثير إذاعة أمدرمان في سنوات سابقة، وحدث بأن فاز البرنامج المذكور بجائزة اتحاد إذاعات الدول العربية، هو الإعلامي الاستثنائي الطيب إبراهيم بانقا، ثم الشاعر الشعبي جهير السيرة الطيب ودضحوية، مروراً بالطيب عبدالماجد النجم التلفزيوني والذي يكفيه برنامجه الموءود (مشوار المساء) الذي كان يطل عبره على كل عشاق الشّاشة الصّغيرة، ثم الشيخين الجليلين الطيب (راجل أمرحي)، وجدي الشيخ الطيب الشيخ ودمضوي المدفون في قرية (العليقة الشيخ) شمال غرب كوستي، فالطيب محمد الطيب صاحب الذاكرة الشعبية الفوتوجرافية الرقمية الحية التي تمشي بين النّاس، أي لكونه باحثاً وموثقاً للتراث السوداني، ووزع طاقاته السحرية على الكتابة والتنقيب وجمع الفلكلور والبحث المتأني في جماليات الحياة والثقافة السّودانية في بعديها المحلي والكوني.
هو الذي أبصر نور الدنيا (أم بناية قش) في العام 1940م بمنطقة تدعى (المقرن) ريفي مدينة الدّامر إلى أن قيض الله له حفظ القرآن بخلوة المقرن.. قريته التي خرج منها للحياة بدامر المجذوب بنهرالنّيل، بل ولد ليكون فلكلورياً، ودرس المرحلتين الكتاب والوسطى بـ(أتبرا) وبعد تلقيه لدراسات خاصة عمل أولاً بجامعة الخرطوم بوحدة أبحاث السودان، ثم انتقاله الى وزارة الثقافة مديراً لمركز الفلكلور، وأحبّه الناس بعد ذلك منذ أن ألقى على عاتقه مهمة التوثيق لتراثنا الشعبي السوداني، وأنجز أكثر من (10) كتب تتناول التراث الشعبي والديني في السودان والدول المجاورة.. ويأتي جهده التأليفي بعد زيارات ميدانية لأغلبية قرى ومدن السودان، زيارة لجمع الفلكلور وإعادة تدوينه وتوثيقه.
ويقول البروفيسور عبدالله علي إبراهيم مقدماً لأعمال الطيب الكاملة التي نشرتها هيئة الخرطوم للصحافة والنشر.. ظهر بيننا الطيب محمد الطيب، الباحث المُصقع في ثقافة البادية والريف العربي الإسلامي السوداني، فجأة في نحو 1965م بشعبة أبحاث السودان بكلية الآداب بجامعة الخرطوم. كنّا جماعة: سيد حريز وأحمد عبد الرحيم نصر ومصطفى إبراهيم طه، وزعيمنا الدكتور يوسف فضل حسن.. كنا مفتونين بـ(الفولكلور) الذي كلّفتنا الجامعة بجمعه وتبويبه ودرسه. ولم يكن أياً منّا قد تخصص فيه فاتسم عملنا بالتجريب والشغف، وكان تاج كل ذلك شعور عميق بالزمالة. لم تكن تنعقد حلقة تسجيل مع مادح أو همباتي شاعر أو راوية تاريخ إلا وجدتنا حضوراً جميعاً نشدُّ أزر بعضنا بعضا.
وفجأة ظهر بيننا الطيب (قاطع حبلو) من مقرن النيل ونهر العطبرا بجهة بلدة الدامر. قال إنه محب لـ(الفولكلور)، وقد طلّق أشغاله كلها وقرّر التفرغ لجمع الأدب الشعبي. لا أذكر أننا سألناه عن مسيرته التعليمية، ولست متأكداً إلى يوم المسلمين هذا كم استحصل الطيب من علم المدارس. وكان واضحاً أنه رجل نيِّر، ولكنه صِفْر اليدين من الشّهادات. وأذكر أنه قال إنه كان مندوب أهله في المقرن في مجلس ريفي شندي الذي تَبِعت له (المقرن)، وقال إنه كان تاجراً أو تشّاشاً.
ولم يترك لنا الطّيب باباً لمثل هذا السؤال، فقد أخذنا بمحفوظاته من التّراث وبأدائه بصوت طربنا له. وسعى يوسف في أروقة الجامعة يطلب له وظيفة لم تخطر على بال بيروقراطي وهي (جامع فولكلور) بأجر مجمّد قيمته 50 جنيهاً، وكان مرتب أي منّا لا يتجاوز السّتين.. وقبلت به الجامعة.
وأهدى الطيب الباحث المدقق في عوالم التراث الشعبي المكتبة المعرفية باقة منتقاة من العناوين والمقالات التي تتناول مواضيعاً مختلفة في الدوبيت والمسادير والأمثال وغيرها مثل طه ودالشلهمة (شاعر الطبيعة)، وشغبة الشاعرة القائدة، وأحمد عوض الكريم (شيخ شعراء البطانة)، والفروسية في الأدب الشعبي، والجابودي، والسريق، والابل، والبطانة، وعبدالله ود النعيم الفادني، والشومار، والشاشاي، وحاج الماحي، والأنواء في الأدب الشعبي عند الشاعر الشعبي، والدنقر، ومن التراث الشعبي (حمد عريان)، والتراث الشعبي السوداني (سير الجير)، والمنازل، والطمبور، والحلى، والقنيص، والبرامكة من الماضي القريب وهذه كانت مقالاته فقط، أي جزء منها.. أما كتبه، فهي عديدة مثل كتابه (دوباي 2000م)، الذي درس الميزان العروضي لنظم البادية العربية السودانية.. كما في قول الأستاذ عبدالله علي إبراهيم، وكم كنت أتمنى محاورة (البروف) هذا في حكايات فكرية وتراثية ومعرفية وغيرها.
هو ذاته الطيب محمد الطيب الذي يعتبر أول سوداني ينتبه الى أهمية التراث الشعبي السوداني، فيكرس حياته باحثاً في هذا المجال، ويجوب بوادي السودان وحضره، ليجمع هذا التراث من مصادره الأصلية، فكانت برامجه المسموعة والمرئية، إضافة إلى مؤلفاته التي تزين أرفف المكتبات العامة والخاصة مثل الأنداية والمسيد ودليل الباحث السوداني لجمع الفلكلور والتراث الشعبي لقبيلة المناصير والمرشد لجمع الفلكلور بالاشتراك مع الشهيد عبدالسلام سليمان سعد وعلي سعد، كما أنجز الطيب كتاب الدوباي وهو عبارة عن دراسة في بحور الغناء الشعبي، ثم أصدر كتاب آخر حمل اسم الشيخ فرح ودتكتوك حلال المشبوك وهو عبارة عن دراسة لعصره وأشعاره على عهد السلطنة الزراقاء والتراث الشعبي (الحمران) وغيرها، أما برنامجه التفزيوني الموسوم (صور شعبية) فيعد موسوعة وثائقية لا مثيل لها، ويشكل أرضية معلوماتية لكافة طلاب الدراسات العليا. وهذا البرنامج استمر لأكثر من سبع وعشرين عاماً.
وهو ذاته الطيب الذي وصفته رباح الصادق المهدي بأنه: (خلطة غريبة، فلو وصفته بأنه مؤرخ محلي كما تصف مضابط التاريخ... كذّبك حسه النقدي من حين لآخر... ولو قلت إنه عالم أكاديمي لرد عليك بأنه لا يتبع في نهجه الوسائل الأكاديمية المعهودة في التعامل مع المأثورات الشفهية مثلما فعل جان فانسينا في نهج التعامل مع المأثورات كتاريخ). غير أن البروفيسور عبدالله علي إبراهيم، يرى أن الطيب لم يكن قادراً على أن ينجز أكثر صور شعبية لولا سخاء مشايخ وتجار وأحباب مولوا زياراته الميدانية لبقاعهم وأحسنوا إليه. وهذه سنة في الإحسان إلى أهل المشروعات الثقافية، لم تقع لصاحب مشروع ثقافي حديث قبل الطيب. وكان الطيب غني بهذه الصحبة عن تكفف الدولة العادلة أو الظالمة.
كان الطيب يحمل شعلة التنوير المعرفي والإبداعي وأصبح فيما بعد جهير السيرة، سمح السريرة عظيم الإفادة لشعبة وأروى ظمأ الباحثين عن جرعات الثقافة السودانية والعناصر المدهشة في التراث المحلي، ممّا مكّنه من نيل مجموعة من الأوسمة، مثل وسام العلم الفضي عام 1970م.. ووسام العلم الذهبي من المكتبة القبطية.. ووسام المجلس القومي للبحوث ماجستير فخري من جامعة الخرطوم 1982م.. ووسام العلم الذهبي في الدراسات الشعبية (جامعة الخرطوم).. ووسام السلام 1989م.. ووسام معهد الدراسات الآسيوية والإفريقية.
والطيب هو عضو باتحاد الأدباء السوداني ومرشح عضو الاتحاد المؤرخين وعضو اتحاد الكتاب السودانيين وشارك في مؤتمرات في (أوروبا، مصر، الكويت، الأمارات، الصومال) وغيرها..
كما شارك في عشرات المحاضرات بالجمعيات والأندية وفي مناسبات مختلفة. يصفه معالي أبو شريف بـ(الباحث المتجول).
ويرى الأستاذ الفكي عبدالرحمن أن الطيب محمد الطيب، طيبان يتوسطهما محمد، فأل حسن، الفجر حي على الفلاح، وجاء للحياة فلاح في البدن والعقل والروح، لم يحبو فمشى، ويمشى فما تتعب رجلاه، يروح، يعد، يعرض فيمتع، الطيب في ذاكرة البلد.
وكان الطيب قد أصدر كتب أخرى مثل الأنداية وبيت البكاء وتاريخ المديح النبوي في السودان والصعاليك العرب في السودان.
نعم.. هو ذاته الطيب الذي يشكل موسوعة تراثية جوالة ويصفه المثقفون والأكاديميون بأنه (الذاكرة الشعبية للسودانيين).
قال عنه الإمام الصادق المهدي: إن الحبيب الطيب محمد الطيب، كان موثقاً لثقافات السودان والسودانيين، وبذلك نشر كل الدرر الثقافية السودانية داخل السودان وعالمياً، وكان كاتباً صحفياً منذ العام 1968م، وأنجز كتاباً آخر حمل اسم (الإبل في السودان).. غيرأن البروفيسور الحبر يوسف نورالدائم، يرى أن الطيب كان موسوعة في مجال التراث الشعبي سواء في مجال المديح أو الحماسة أو غيرها من المجالات التي طرقها، وكان ذا معرفة بالبلد والشعر والتراث الشعبي، وقد زار المدن والقرى وعرف عادات الناس وتقاليدهم، وله في ذلك الباع الطويل وهو عضو في مجمع اللغة العربية، وقد افتقده المجمع.. كان رجلاً له مكانته وتأثر به عدد من الباحثين سواء في برامجه الإذاعية أو التلفزيونية أو الصحف، وقد ترسم الباحثون خطاه.
غير أن (البروف) عبدالله علي إبراهيم الذي خبر كل محطات الطيب محمد الطيب، بل واصطحبه في جولاته العديدة يكتب عنه (الطيب إلى ساحة وصف هذه الثقافة بفحولة منعشة. فكتاباته مثل (ذاكرة قرية) و(الانداية) أو(دوباي) أو(المسيد) بمنجاة من منهج سوق الدليل من الفلكلور لإثبات عروبة السودان أو أفريقيته. فهو لم يخرج ليطعن في أيٍّ منهما أو ليثبتهما. فعروبة من سعى لوصف ثقافتهم هي من المعلوم بالضرورة.. فهم مصدّقون في أنسابهم. وكان هذا قراره كإثنوغرافي. وتتفق معه في ذلك نظريات ثقافية مستحدثة تلزم الإثنوغرافي بأخذ رأي الجماعة في هويتها محمل الجد. فليس دوره أن يغالطها، بل أن يعرف الملابسات السياسية والاجتماعية التي تبنت فيه هذه الهوية دون غيرها. ولم يكترث الطيب بعد قراره الإثنوغرافي بأخذ عرب السودان بما قالوا من أنهم عرب، بغير أن يروي قصة عن حياتهم التي يعيشونها حتى النخاع تستغرق قارئها وتمتعه.
فلا تخالط الطيب شبهة في عروبة أهل كتابه (ذاكرة قرية) أو عربية (الإنداية) كحانة للأنس، أو عربية عروض نظم بادية السودان التي درسها في (دوباي)، أو إسلامية مدرسة أو كتاب القرآن الذي فصّله في (المسيد). وهذه واقعية علم الإثنوغرافيا. فباحثها لا يتطفّل في شأن لا يعنيه؛ وهو تكذيب مبحوثيه وإقامة الدليل والبرهان على فساد اعتقادهم عن أنفسهم.
والطيب الذي طاف كل مدن وقرى السودان ودولاً أفريقية وعربية، وهو على صلة ودراية بكل الثقافات السودانية من قبائل وأنساب وعادات وتقاليد وأشعار، هو ذاته الذي يقول اسمه كما ورد إلينا... الطيب محمد الطيب الفكي أحمد أبوالقاسم محمد أبوالقاسم من الدزقلاب والقنديلاب بمقرن نهر عطبرة، هاجر جدوده قديماً لمنطقة نوري طلباً للعلم واستقروا بها وهناك ولد جده الفكي أحمد أبوالقاسم من أم تنتمي الى قبيلة الشايقية، ثم رجع الى منطقته (المقرن) وتزوج الروضة بت الطاهر الفكي مدني، ثم تزوج محمد الطيب من حبوبة بنت علي محمد شبر من العكد الكبوشاب وأنجب منها الطيب ومعه أبناء وبنات، هذا هو نسب الطيب محمد الطيب.
ويعتبر كتابه (المسيد) هو الثاني من حيث الأهمية في مواضيع التوثيق لسير وأخبارالمشائخ والأولياء، أي بعد طبقات ودضيف الله، وهو تاريخ وتوثيق شيّق لعالم الخلوة والمسيد في السودان ومقارنته بالدول العربية والإفريقية منذ أوئل القرن الثامن عشرالميلادي، ويركز على الخلوة أو المسيد كوحدة محورية يختارها.. إما لشهرتها أو لعراقتها أو لحجمها أو غلب واحدة على الأخرى مثل مسيد ودالفادني وهمشكوريب وأم ضبان، أو خلوة الغريبة من دار الشايقية وهي من أعرق وأشهر الخلاوي في تلك المنطقة.
يصفه الأستاذ أحمد إبراهيم أبوشوك بأنه دوحة عطاء ماكث في الأرض بما ينفع الناس وأحد سدنة التراث الشعبي وهودجاً جامعاً لتراث الحضر والريف.
جاء وهو مشبع بسير عنترة بن شداد وأبوزيد الهلالي وودضحوية وطه الضرير وودتكتوك والغول وودأب زهانة، واشتغل في بداية حياته بالتجارة في سوق الدامر وأحياناً مندوباً لأهل قريته (المقرن) في مجلس ريفي شندي، ثم انتقالاته للاشتغال بالتراث وتقديمه لبرنامج (صور شعبية) عبر تلفزيون السودان، وعرض عبره تجارب حية لواقع السودانيين وعاداتهم وتقاليدهم ومأثوراتهم الشعبية، غير أن الأستاذ محجوب كرار كان يستضيف الطيب في برنامجه الإذاعي (التراث السوداني) على أثيرالإذاعة السودانية وظهر الطيب في برنامج كرار باعتبار أن الأول باحثاً في التراث وانطلق بعد ذلك الى فضاءات ابداعية أرحب.
وتأملات في عوالم بت مسيمس ومهيرة بت عبود وبنت المكاوي المعجبة بشخصية الإمام المهدي والتي تقول:
طبل العز ضرب هوينه في البرزة
غير طبل أم كبان أنا ما بشوف عزّة
وإن طال الوبر واسيهه بالجزة
وإن ما عم نيل ما فرّخت وزّة.
أو اعجابه بمواقف مهيرة في قولاتها البطولية:
الليلة استعدوا وركبوا خيل الكر
قدامن من عقيدة بالأغر دفر
جنياتنا الأسود الليلة تتنتر
يا الباشا الغشيم قول لي جدادك كر
ولم ينس الطيب دور الحكّامات أمثال (بت مسيمس) في مدحها للزبير باشا ود رحمة عند نفيه إلى جبل طارق بالمغرب في قولها:
في السودان قبيل.. ما بشبهوك بالناس
يا جبل الدهب.. الصافي ماك نحاس
بارود انتصارك.. في غمزة الكباس
خليت المجوس.. ألين من القرطاس
أو حكاياته التوثيقية لـ(البنونة بت المك) في رثائياتها لأخيها عمارة في قولها:
ما دايرا لك الميتة أم رمادا شح
دايراك يوم لقاء بدماك تتوشح
الميت مسولب والعجاج يكتح
أحيّا علي سيفو البسوي التّح
ومما يزيد قيمة رصيد الطيب المعرفي أنّه يأتي في معظمه ــ وفق رؤية الدكتور مرتضي الغالي ــ من باب المشاهدات، والسياحة، والمسوح الحقلية، والمعايشة الراصدة، والرحلات التي تضرب فيها أكباد المستحيل من أجل الوقوف على أثر، أو حجر، أو أمثولة، أو مسدار، أو طقس حياة، معيداً لنا في حياتنا المعاصرة نموذج العلماء الموسوعيين الذين يتتبعون حصاد المعرفة التي لا يرتادها قدم. غير أن دكتور محمد عثمان الجعلي يرى أن جهد الطيب لم يتوقف لأربعة عقود في دهاليز مسارب التراث، أي هو كاهن التراث وحامل مفاتيح ملغزات وخبايا الفلكلو، وشيخ زمزمي معتق نهل من حياض معرفة حقيقية لا يغيض ماؤها، واستظل بجنان علم أصيل لا ينقطع فيؤه.
والطيب محمد الطيب هذا الأنصاري قلباً وقالباً واشتهر بجلبابه الأنصارية، في (ذاكرة قرية) كان يوثق لقريته التي أبصر على ثراها نور الدنيا والكتاب مساهمة منه لتشمل ضرباً جديداً من السيرة وهدف بها الإشارة الى مجتمع متجانس في (المقرن)، وفي كتابه (بيت البكاء) اتجاه للكتابة عن العادات والتقاليد في المآتم وكيفية إذاعة الأموات والمآتم عند العرب والفونج وجنوب السودان، وقدّم للكتاب المذكور هذا البروفيسور محمد عبدالله الريح وقلما تجد نظيراً لـ(بيت البكاء) في كتب الأقدمين من لدن الجاحظ، وفي كتاب (المسيد) يلقي الضوء على تجربة المسيد والخلاوي في السودان، وفي (الانداية) التي يتحدث عنها الكتاب ماهي إلاّ مظهر خاص من مظاهر الحياة السودانية، وهي ككل المؤسسات الاجتماعية لها نظمها وتقاليدها وقيمها التي يلتزم بها من يرتادونها ويذمون من يخرج عليها، كما في وصف البروف عون الشريف قاسم في مقدمته للكتاب، وفي (فرح ودتكتوك حلاّل المشبوك) الذي لا يقل رصانة عمّا كتب في هذا المجال عن سير العارفين، غير أن كتابه (دوباي) يأخذك بأسلوب الباحث الألمعي في سياحة في كل السودان لتتعرف بمتعة على... المربع أو الدوباي، والريق، والبوباي، والشاشاي، والكمبلا، والتم تم، وتراث الشلك، والنقارة، وأهازيج الحكامات، وطارات المديح، وأمثال دارفور الشعبية، والهوهاي، والجابودي، والسومار، أوالبنينة، والطمبور، والجراري، والتوية، والجالسة، والبادا، والهسيس.
في الساعة الثانية من ظهر يوم الثلاثاء السادس من فبراير لعام ألفين وسبعة أغمض الطيب عينيه وأسدل جفنيه وفاضت روحه الطاهرة الى بارئها، وأنطوت بذلك مجلدات ضخمة من تاريخ البلاد لازالت تضيئ الطريق أمام الباحثين عن المعرفة.
رحم الله الطيب محمد بن الطيب... (أيقونة) الأدب الشعبي في السودان.
هو الذي أبصر نور الدنيا (أم بناية قش) في العام 1940م بمنطقة تدعى (المقرن) ريفي مدينة الدّامر إلى أن قيض الله له حفظ القرآن بخلوة المقرن.. قريته التي خرج منها للحياة بدامر المجذوب بنهرالنّيل، بل ولد ليكون فلكلورياً، ودرس المرحلتين الكتاب والوسطى بـ(أتبرا) وبعد تلقيه لدراسات خاصة عمل أولاً بجامعة الخرطوم بوحدة أبحاث السودان، ثم انتقاله الى وزارة الثقافة مديراً لمركز الفلكلور، وأحبّه الناس بعد ذلك منذ أن ألقى على عاتقه مهمة التوثيق لتراثنا الشعبي السوداني، وأنجز أكثر من (10) كتب تتناول التراث الشعبي والديني في السودان والدول المجاورة.. ويأتي جهده التأليفي بعد زيارات ميدانية لأغلبية قرى ومدن السودان، زيارة لجمع الفلكلور وإعادة تدوينه وتوثيقه.
ويقول البروفيسور عبدالله علي إبراهيم مقدماً لأعمال الطيب الكاملة التي نشرتها هيئة الخرطوم للصحافة والنشر.. ظهر بيننا الطيب محمد الطيب، الباحث المُصقع في ثقافة البادية والريف العربي الإسلامي السوداني، فجأة في نحو 1965م بشعبة أبحاث السودان بكلية الآداب بجامعة الخرطوم. كنّا جماعة: سيد حريز وأحمد عبد الرحيم نصر ومصطفى إبراهيم طه، وزعيمنا الدكتور يوسف فضل حسن.. كنا مفتونين بـ(الفولكلور) الذي كلّفتنا الجامعة بجمعه وتبويبه ودرسه. ولم يكن أياً منّا قد تخصص فيه فاتسم عملنا بالتجريب والشغف، وكان تاج كل ذلك شعور عميق بالزمالة. لم تكن تنعقد حلقة تسجيل مع مادح أو همباتي شاعر أو راوية تاريخ إلا وجدتنا حضوراً جميعاً نشدُّ أزر بعضنا بعضا.
وفجأة ظهر بيننا الطيب (قاطع حبلو) من مقرن النيل ونهر العطبرا بجهة بلدة الدامر. قال إنه محب لـ(الفولكلور)، وقد طلّق أشغاله كلها وقرّر التفرغ لجمع الأدب الشعبي. لا أذكر أننا سألناه عن مسيرته التعليمية، ولست متأكداً إلى يوم المسلمين هذا كم استحصل الطيب من علم المدارس. وكان واضحاً أنه رجل نيِّر، ولكنه صِفْر اليدين من الشّهادات. وأذكر أنه قال إنه كان مندوب أهله في المقرن في مجلس ريفي شندي الذي تَبِعت له (المقرن)، وقال إنه كان تاجراً أو تشّاشاً.
ولم يترك لنا الطّيب باباً لمثل هذا السؤال، فقد أخذنا بمحفوظاته من التّراث وبأدائه بصوت طربنا له. وسعى يوسف في أروقة الجامعة يطلب له وظيفة لم تخطر على بال بيروقراطي وهي (جامع فولكلور) بأجر مجمّد قيمته 50 جنيهاً، وكان مرتب أي منّا لا يتجاوز السّتين.. وقبلت به الجامعة.
وأهدى الطيب الباحث المدقق في عوالم التراث الشعبي المكتبة المعرفية باقة منتقاة من العناوين والمقالات التي تتناول مواضيعاً مختلفة في الدوبيت والمسادير والأمثال وغيرها مثل طه ودالشلهمة (شاعر الطبيعة)، وشغبة الشاعرة القائدة، وأحمد عوض الكريم (شيخ شعراء البطانة)، والفروسية في الأدب الشعبي، والجابودي، والسريق، والابل، والبطانة، وعبدالله ود النعيم الفادني، والشومار، والشاشاي، وحاج الماحي، والأنواء في الأدب الشعبي عند الشاعر الشعبي، والدنقر، ومن التراث الشعبي (حمد عريان)، والتراث الشعبي السوداني (سير الجير)، والمنازل، والطمبور، والحلى، والقنيص، والبرامكة من الماضي القريب وهذه كانت مقالاته فقط، أي جزء منها.. أما كتبه، فهي عديدة مثل كتابه (دوباي 2000م)، الذي درس الميزان العروضي لنظم البادية العربية السودانية.. كما في قول الأستاذ عبدالله علي إبراهيم، وكم كنت أتمنى محاورة (البروف) هذا في حكايات فكرية وتراثية ومعرفية وغيرها.
هو ذاته الطيب محمد الطيب الذي يعتبر أول سوداني ينتبه الى أهمية التراث الشعبي السوداني، فيكرس حياته باحثاً في هذا المجال، ويجوب بوادي السودان وحضره، ليجمع هذا التراث من مصادره الأصلية، فكانت برامجه المسموعة والمرئية، إضافة إلى مؤلفاته التي تزين أرفف المكتبات العامة والخاصة مثل الأنداية والمسيد ودليل الباحث السوداني لجمع الفلكلور والتراث الشعبي لقبيلة المناصير والمرشد لجمع الفلكلور بالاشتراك مع الشهيد عبدالسلام سليمان سعد وعلي سعد، كما أنجز الطيب كتاب الدوباي وهو عبارة عن دراسة في بحور الغناء الشعبي، ثم أصدر كتاب آخر حمل اسم الشيخ فرح ودتكتوك حلال المشبوك وهو عبارة عن دراسة لعصره وأشعاره على عهد السلطنة الزراقاء والتراث الشعبي (الحمران) وغيرها، أما برنامجه التفزيوني الموسوم (صور شعبية) فيعد موسوعة وثائقية لا مثيل لها، ويشكل أرضية معلوماتية لكافة طلاب الدراسات العليا. وهذا البرنامج استمر لأكثر من سبع وعشرين عاماً.
وهو ذاته الطيب الذي وصفته رباح الصادق المهدي بأنه: (خلطة غريبة، فلو وصفته بأنه مؤرخ محلي كما تصف مضابط التاريخ... كذّبك حسه النقدي من حين لآخر... ولو قلت إنه عالم أكاديمي لرد عليك بأنه لا يتبع في نهجه الوسائل الأكاديمية المعهودة في التعامل مع المأثورات الشفهية مثلما فعل جان فانسينا في نهج التعامل مع المأثورات كتاريخ). غير أن البروفيسور عبدالله علي إبراهيم، يرى أن الطيب لم يكن قادراً على أن ينجز أكثر صور شعبية لولا سخاء مشايخ وتجار وأحباب مولوا زياراته الميدانية لبقاعهم وأحسنوا إليه. وهذه سنة في الإحسان إلى أهل المشروعات الثقافية، لم تقع لصاحب مشروع ثقافي حديث قبل الطيب. وكان الطيب غني بهذه الصحبة عن تكفف الدولة العادلة أو الظالمة.
كان الطيب يحمل شعلة التنوير المعرفي والإبداعي وأصبح فيما بعد جهير السيرة، سمح السريرة عظيم الإفادة لشعبة وأروى ظمأ الباحثين عن جرعات الثقافة السودانية والعناصر المدهشة في التراث المحلي، ممّا مكّنه من نيل مجموعة من الأوسمة، مثل وسام العلم الفضي عام 1970م.. ووسام العلم الذهبي من المكتبة القبطية.. ووسام المجلس القومي للبحوث ماجستير فخري من جامعة الخرطوم 1982م.. ووسام العلم الذهبي في الدراسات الشعبية (جامعة الخرطوم).. ووسام السلام 1989م.. ووسام معهد الدراسات الآسيوية والإفريقية.
والطيب هو عضو باتحاد الأدباء السوداني ومرشح عضو الاتحاد المؤرخين وعضو اتحاد الكتاب السودانيين وشارك في مؤتمرات في (أوروبا، مصر، الكويت، الأمارات، الصومال) وغيرها..
كما شارك في عشرات المحاضرات بالجمعيات والأندية وفي مناسبات مختلفة. يصفه معالي أبو شريف بـ(الباحث المتجول).
ويرى الأستاذ الفكي عبدالرحمن أن الطيب محمد الطيب، طيبان يتوسطهما محمد، فأل حسن، الفجر حي على الفلاح، وجاء للحياة فلاح في البدن والعقل والروح، لم يحبو فمشى، ويمشى فما تتعب رجلاه، يروح، يعد، يعرض فيمتع، الطيب في ذاكرة البلد.
وكان الطيب قد أصدر كتب أخرى مثل الأنداية وبيت البكاء وتاريخ المديح النبوي في السودان والصعاليك العرب في السودان.
نعم.. هو ذاته الطيب الذي يشكل موسوعة تراثية جوالة ويصفه المثقفون والأكاديميون بأنه (الذاكرة الشعبية للسودانيين).
قال عنه الإمام الصادق المهدي: إن الحبيب الطيب محمد الطيب، كان موثقاً لثقافات السودان والسودانيين، وبذلك نشر كل الدرر الثقافية السودانية داخل السودان وعالمياً، وكان كاتباً صحفياً منذ العام 1968م، وأنجز كتاباً آخر حمل اسم (الإبل في السودان).. غيرأن البروفيسور الحبر يوسف نورالدائم، يرى أن الطيب كان موسوعة في مجال التراث الشعبي سواء في مجال المديح أو الحماسة أو غيرها من المجالات التي طرقها، وكان ذا معرفة بالبلد والشعر والتراث الشعبي، وقد زار المدن والقرى وعرف عادات الناس وتقاليدهم، وله في ذلك الباع الطويل وهو عضو في مجمع اللغة العربية، وقد افتقده المجمع.. كان رجلاً له مكانته وتأثر به عدد من الباحثين سواء في برامجه الإذاعية أو التلفزيونية أو الصحف، وقد ترسم الباحثون خطاه.
غير أن (البروف) عبدالله علي إبراهيم الذي خبر كل محطات الطيب محمد الطيب، بل واصطحبه في جولاته العديدة يكتب عنه (الطيب إلى ساحة وصف هذه الثقافة بفحولة منعشة. فكتاباته مثل (ذاكرة قرية) و(الانداية) أو(دوباي) أو(المسيد) بمنجاة من منهج سوق الدليل من الفلكلور لإثبات عروبة السودان أو أفريقيته. فهو لم يخرج ليطعن في أيٍّ منهما أو ليثبتهما. فعروبة من سعى لوصف ثقافتهم هي من المعلوم بالضرورة.. فهم مصدّقون في أنسابهم. وكان هذا قراره كإثنوغرافي. وتتفق معه في ذلك نظريات ثقافية مستحدثة تلزم الإثنوغرافي بأخذ رأي الجماعة في هويتها محمل الجد. فليس دوره أن يغالطها، بل أن يعرف الملابسات السياسية والاجتماعية التي تبنت فيه هذه الهوية دون غيرها. ولم يكترث الطيب بعد قراره الإثنوغرافي بأخذ عرب السودان بما قالوا من أنهم عرب، بغير أن يروي قصة عن حياتهم التي يعيشونها حتى النخاع تستغرق قارئها وتمتعه.
فلا تخالط الطيب شبهة في عروبة أهل كتابه (ذاكرة قرية) أو عربية (الإنداية) كحانة للأنس، أو عربية عروض نظم بادية السودان التي درسها في (دوباي)، أو إسلامية مدرسة أو كتاب القرآن الذي فصّله في (المسيد). وهذه واقعية علم الإثنوغرافيا. فباحثها لا يتطفّل في شأن لا يعنيه؛ وهو تكذيب مبحوثيه وإقامة الدليل والبرهان على فساد اعتقادهم عن أنفسهم.
والطيب الذي طاف كل مدن وقرى السودان ودولاً أفريقية وعربية، وهو على صلة ودراية بكل الثقافات السودانية من قبائل وأنساب وعادات وتقاليد وأشعار، هو ذاته الذي يقول اسمه كما ورد إلينا... الطيب محمد الطيب الفكي أحمد أبوالقاسم محمد أبوالقاسم من الدزقلاب والقنديلاب بمقرن نهر عطبرة، هاجر جدوده قديماً لمنطقة نوري طلباً للعلم واستقروا بها وهناك ولد جده الفكي أحمد أبوالقاسم من أم تنتمي الى قبيلة الشايقية، ثم رجع الى منطقته (المقرن) وتزوج الروضة بت الطاهر الفكي مدني، ثم تزوج محمد الطيب من حبوبة بنت علي محمد شبر من العكد الكبوشاب وأنجب منها الطيب ومعه أبناء وبنات، هذا هو نسب الطيب محمد الطيب.
ويعتبر كتابه (المسيد) هو الثاني من حيث الأهمية في مواضيع التوثيق لسير وأخبارالمشائخ والأولياء، أي بعد طبقات ودضيف الله، وهو تاريخ وتوثيق شيّق لعالم الخلوة والمسيد في السودان ومقارنته بالدول العربية والإفريقية منذ أوئل القرن الثامن عشرالميلادي، ويركز على الخلوة أو المسيد كوحدة محورية يختارها.. إما لشهرتها أو لعراقتها أو لحجمها أو غلب واحدة على الأخرى مثل مسيد ودالفادني وهمشكوريب وأم ضبان، أو خلوة الغريبة من دار الشايقية وهي من أعرق وأشهر الخلاوي في تلك المنطقة.
يصفه الأستاذ أحمد إبراهيم أبوشوك بأنه دوحة عطاء ماكث في الأرض بما ينفع الناس وأحد سدنة التراث الشعبي وهودجاً جامعاً لتراث الحضر والريف.
جاء وهو مشبع بسير عنترة بن شداد وأبوزيد الهلالي وودضحوية وطه الضرير وودتكتوك والغول وودأب زهانة، واشتغل في بداية حياته بالتجارة في سوق الدامر وأحياناً مندوباً لأهل قريته (المقرن) في مجلس ريفي شندي، ثم انتقالاته للاشتغال بالتراث وتقديمه لبرنامج (صور شعبية) عبر تلفزيون السودان، وعرض عبره تجارب حية لواقع السودانيين وعاداتهم وتقاليدهم ومأثوراتهم الشعبية، غير أن الأستاذ محجوب كرار كان يستضيف الطيب في برنامجه الإذاعي (التراث السوداني) على أثيرالإذاعة السودانية وظهر الطيب في برنامج كرار باعتبار أن الأول باحثاً في التراث وانطلق بعد ذلك الى فضاءات ابداعية أرحب.
وتأملات في عوالم بت مسيمس ومهيرة بت عبود وبنت المكاوي المعجبة بشخصية الإمام المهدي والتي تقول:
طبل العز ضرب هوينه في البرزة
غير طبل أم كبان أنا ما بشوف عزّة
وإن طال الوبر واسيهه بالجزة
وإن ما عم نيل ما فرّخت وزّة.
أو اعجابه بمواقف مهيرة في قولاتها البطولية:
الليلة استعدوا وركبوا خيل الكر
قدامن من عقيدة بالأغر دفر
جنياتنا الأسود الليلة تتنتر
يا الباشا الغشيم قول لي جدادك كر
ولم ينس الطيب دور الحكّامات أمثال (بت مسيمس) في مدحها للزبير باشا ود رحمة عند نفيه إلى جبل طارق بالمغرب في قولها:
في السودان قبيل.. ما بشبهوك بالناس
يا جبل الدهب.. الصافي ماك نحاس
بارود انتصارك.. في غمزة الكباس
خليت المجوس.. ألين من القرطاس
أو حكاياته التوثيقية لـ(البنونة بت المك) في رثائياتها لأخيها عمارة في قولها:
ما دايرا لك الميتة أم رمادا شح
دايراك يوم لقاء بدماك تتوشح
الميت مسولب والعجاج يكتح
أحيّا علي سيفو البسوي التّح
ومما يزيد قيمة رصيد الطيب المعرفي أنّه يأتي في معظمه ــ وفق رؤية الدكتور مرتضي الغالي ــ من باب المشاهدات، والسياحة، والمسوح الحقلية، والمعايشة الراصدة، والرحلات التي تضرب فيها أكباد المستحيل من أجل الوقوف على أثر، أو حجر، أو أمثولة، أو مسدار، أو طقس حياة، معيداً لنا في حياتنا المعاصرة نموذج العلماء الموسوعيين الذين يتتبعون حصاد المعرفة التي لا يرتادها قدم. غير أن دكتور محمد عثمان الجعلي يرى أن جهد الطيب لم يتوقف لأربعة عقود في دهاليز مسارب التراث، أي هو كاهن التراث وحامل مفاتيح ملغزات وخبايا الفلكلو، وشيخ زمزمي معتق نهل من حياض معرفة حقيقية لا يغيض ماؤها، واستظل بجنان علم أصيل لا ينقطع فيؤه.
والطيب محمد الطيب هذا الأنصاري قلباً وقالباً واشتهر بجلبابه الأنصارية، في (ذاكرة قرية) كان يوثق لقريته التي أبصر على ثراها نور الدنيا والكتاب مساهمة منه لتشمل ضرباً جديداً من السيرة وهدف بها الإشارة الى مجتمع متجانس في (المقرن)، وفي كتابه (بيت البكاء) اتجاه للكتابة عن العادات والتقاليد في المآتم وكيفية إذاعة الأموات والمآتم عند العرب والفونج وجنوب السودان، وقدّم للكتاب المذكور هذا البروفيسور محمد عبدالله الريح وقلما تجد نظيراً لـ(بيت البكاء) في كتب الأقدمين من لدن الجاحظ، وفي كتاب (المسيد) يلقي الضوء على تجربة المسيد والخلاوي في السودان، وفي (الانداية) التي يتحدث عنها الكتاب ماهي إلاّ مظهر خاص من مظاهر الحياة السودانية، وهي ككل المؤسسات الاجتماعية لها نظمها وتقاليدها وقيمها التي يلتزم بها من يرتادونها ويذمون من يخرج عليها، كما في وصف البروف عون الشريف قاسم في مقدمته للكتاب، وفي (فرح ودتكتوك حلاّل المشبوك) الذي لا يقل رصانة عمّا كتب في هذا المجال عن سير العارفين، غير أن كتابه (دوباي) يأخذك بأسلوب الباحث الألمعي في سياحة في كل السودان لتتعرف بمتعة على... المربع أو الدوباي، والريق، والبوباي، والشاشاي، والكمبلا، والتم تم، وتراث الشلك، والنقارة، وأهازيج الحكامات، وطارات المديح، وأمثال دارفور الشعبية، والهوهاي، والجابودي، والسومار، أوالبنينة، والطمبور، والجراري، والتوية، والجالسة، والبادا، والهسيس.
في الساعة الثانية من ظهر يوم الثلاثاء السادس من فبراير لعام ألفين وسبعة أغمض الطيب عينيه وأسدل جفنيه وفاضت روحه الطاهرة الى بارئها، وأنطوت بذلك مجلدات ضخمة من تاريخ البلاد لازالت تضيئ الطريق أمام الباحثين عن المعرفة.
رحم الله الطيب محمد بن الطيب... (أيقونة) الأدب الشعبي في السودان.
الخميس مارس 08, 2012 3:29 am من طرف ابوحسين
» ديوان عنتره بن شداد الجزء الاول
الخميس مارس 08, 2012 3:28 am من طرف ابوحسين
» عابرة مشتاق للبلد
الإثنين فبراير 27, 2012 2:31 am من طرف ابوحسين
» لحظة شعور وبركان الحنين
الأحد فبراير 26, 2012 5:28 pm من طرف ابوحسين
» شاعر العابرات محمداحمد علي الحبيب
الأحد فبراير 26, 2012 5:19 pm من طرف ابوحسين
» مخاض الشعر إن يأتي صبيا للاخ الشاعر محمد المظلي
الخميس أغسطس 18, 2011 8:31 am من طرف ابوحسين
» إبن عبقر للاخ الشاعر محمد المظلي
الخميس أغسطس 18, 2011 8:29 am من طرف ابوحسين
» ردا على الشاعرة روضة الحاج للاخ الشاعر محمد المظلي
الخميس أغسطس 18, 2011 8:26 am من طرف ابوحسين
» فريضتي للاخ الشاعر محمد المظلي
الخميس أغسطس 18, 2011 8:23 am من طرف ابوحسين